تعدّ المعاناة الفلسطينية ملهمة لكثير من الأعمال الإبداعية؛ لما لها من تأثير عميق في الذاكرة والفكر البشري، أنتجت شعراً ومسرحاً ورواية وقصصاً وسينما وفناً تشكيليّاً خالداً، وروحاً وحياة. إذ تأتي رواية «يافا.. بوينس آيرس.. يافا» لمحمد جميل خضر في هذا السياق تُعرّف بمبدعيّن فلسطينيين من أبناء مدينة يافا الفلسطينية، وتتخذ منهما شخصيتين رئيسيتين تتمحور حولهما الرواية، وتنبثق من وحيهما الأحداث، لينطلق السرد مجسّداً لعذاباتهما المستمرة، ورحلتهما لترسيخ الهوية الفلسطينية في النفوس. إذ أبرزت الرواية صراع الهوية والأسئلة القلقة المقلقة، كما في حديثه عن شخصيته الرئيسة بدري محمد غازي في الأرجنتين:» يزيح ستارة النافذة المطلة على شوارع باليرمو وأشجارها ومطاعمها، يأخذ نفساً من بحرٍ بعيد، تكاد أنفاس البحر الذي داهمه فجأة، تغرق نهر لا بلاتا القابع هناك في الشمال الحزين لبوينس آيرس، يكاد موجه المتدفق يعيده إلى غيبوبة الأسئلة التي لا تنتهي: أسئلة الوجود والهوية والتعايش واللغة ولهجاتها والهجرة وسرمديتها»
تتناسل أحداث الرواية من خلال شخصيتي: محمد غازي، وصبري الشريف، لتمثل الهجرة الفلسطينية في أصقاع المعمورة، وفي هذه الرواية بالتحديد إلى أمريكا الجنوبية، وما انبثق عن هذه الهجرة من رفد للحضارة الإنسانية بالمواهب والإبداعات المختلفة. إنّها هجرة مرّة لكنها منتجة للمعرفة والثقافة والحضارة معاً
الهوية والذاكرة والهجرة والصراع الحضاري كلها مفردات باتت حضارة في الرواية بوصفها مفاتيح نصيّة ومتواليات سرديّة مهمة رفدت البناء الروائي بالأفكار والرؤى والأحلام، فلولا الهجرة لما ظهر صراع الهويات وهذا الاختبار الصعب الذي تحياه الشخوص في مجتمعات مختلفة، لتبقى الذكريات تطارد الشخوص، ويبقى الحنين إلى وطن الأجداد هو الفكرة الرئيسة المسيطرة على الكاتب، إذ تُعرّف الرواية بمبدعين تتخذهما شخصيتين محوريتين تختلف معهما الأزمنة
وتفترق بهما الأمكنة، لكن يبقى الوطن يحملهما في قلبه النابض بالحياة