هذا الكتاب ذي المجلّد الواحد, يحتوي داخله على ثلاثة كتب كلها تأتي تحت "تاريخ القرآن" وتحت مؤلفين مختلفين. الكتاب الأول وهو "في أصل القرآن" بتأليف نولدكه وتعديل شفالي, الكتاب الثاني "جمع القرآن" بتأليف شفالي وتسيمرن, أما الكتاب الثالث فهو "تاريخ نصّ القرآن" من تأليف بريتسل وبرغشترسر
في هذا الكتاب ولأن مؤلفيه مستشرقين, من الطبيعي أن تطرح نفس الأسئلة الخاصة بمسألة الصحة والصدقية التي سبق أن طرحت في القرون الأخيرة في أوروبا على نصوص التوراة والإنجيل, وهم محقّون إذا أخذنا بالإعتبار خلفياتهم ومنطلقاتهم, التي تجد تبريرها في تطور الفكر الأوروبي. ولكن تلك الأسئلة لن تحظى عندنا بنفس الإعتبار والوقع ولا نفس النتائج. وذلك لسبب بسيط أن التوراة لم يكتبها شخص واحد بل ساهم في تأليفها كتاب كثيرون – كما يقول الباحثون ورجال الدين – أولهم موسى عليه السلام الذي أوحى الله إليه بأن يكتب أول سفر للكتاب المقدس يدعى التكوين, ثم واصل كتابة الوحي عدد من الكتّاب من جميع طبقات البشر, وإستغرقت كتابته ألف وستمئة سنة. أما الإنجيل فهو ليس كتاباً واحداً بل أربعة كتب تروي ماحصله أصحابها من كلام السيد المسيح وسيرته. أما القرآن فوضعه مختلف, فمن جهة لم يكتبه الشخص الذي أوحي إليه به, محمد صلى الله عليه وسلم, بل كان يتلقاه قراءة ويبلغة قراءة. ومع أنه أتخذ كتّاباً يكتبون ما يقرأ عليهم منه فإن المرجع في مسألة حفظه من الضياع كان في الدرجة الأولى هم قراؤه الذين يحفظونه عن ظهر قلب. ومن جهة أخرى, فمع أنه نزل متفرقاً على ثلاث وعشرين سنة, فإن المدة جزء من عمر جيل واحد. ولذلك عند جمعه – زمن عثمان – تمّ ذلك بحضور كثير من الصحابة وكتّاب الوحي. ومع هذا كلّه, النتائج التي ينتهي إليها الكتاب والنهايات التي يقرّها لا تختلف كثيراً عن موروثنا وثقاقتنا الإسلاميّة
في القسم الأول المعنون بأصل القرآن – هو الأفضل برأيي - يدور محيطه في زمن الوحي سواء المكي أو المدني, يطبّق فيه نولدكه منهج فقه اللغة لكي يرتّب السور حسب ترتيب النزول و حسب موضوعاتها أيضاً, يعتمد فيها على المنهج ويسقط المرويّات لأنها حسب ما يقول فيها تعارض كبير, فلذلك ترى ترتيب النزول إعتباطياً. أما القسم الثاني "جمع القرآن" والذي يدور في زمن بعد وفاة النبي إلى جمعه وماقيل حولها, فاعتمد المؤلفين على جمع المادة أكثر من ممارسة النقد التاريخي للمرويّات, فلا ترى إختلاف كبير بين ماكتب في المؤلفات الكلاسيكية الإسلامية عن ماكتب فيه. القسم الثالث وهو عن القراءات وتاريخ النص, فزمنه منذ الجمع إلى أن أصبح المصحف كما في شكله الحالي وكيفيّة إعتماد القراءات وأسانيدها. يلاحظ في الأقسام الثلاثة أنها احترمت الأمانة العلميّة واتت لكل موضوع من مؤلفاته الرئيسيّة, لا ترى في هذا الكتاب كثير من الذاتيّة وذلك ما ميّز عمل نولدكه وأشْهَره (في القسم الأول يورد نولدكه بعض أقوال المستشرقون "المضحكة" ويردّ عليها بمنهجه ويثبت أنها أتت من نظره متحيّزة). هناك ملحق في الأخير تعرض فيه مخطوطات قرآنية من أزمان مختلفة
الكتاب مميّز وخصوصاً للباحثين, وكعادة المستشرقين في دراساتهم, لغة جافّة جامدة لا تناسب إلا من أتى للبحث والدراسة ومراجعة النصوص ونقدها, استثني منها نولدكه وشفالي. سأختم بمقولة قالها المترجم في المقدمة "نقد التراث يحوله من عبء ثقيل متحجر, يعرقل التطور والحداثة, إلى خزانة ثقافيّة يستفاد من محتواها في صنع الثقافة الحاضرة. والتراث تراكم التعاطي المبدع, في الحقب الحضاريّة الماضية, مع النتاج الثقافي الذي انتقل إليها من حقب حضاريّة منصرمة. التراث إذا, تراكم إبداعات ماضية, وهو بذلك حافز على الإبداع اليوم في التعاطي وما نقل من آثار السابقين. هكذا تبقى الثقافة حيّة في القوم, إذا استمد اللاحقون من تراث السابقين ما يمكنهم من أن يخلقوا هم تراثاً, فيه من الإبداع ما يستفيد منه القادمون في تشكيل ثقافتهم المقبلة" ولعلّي أضيف, ما أجمل إن كان هذا التراث هو تراثنا العربيّ