كان العراق مجرد ضحية للأفكار والإستراتيجيات، ولإختبار مصداقية صنع الخرائط التي يكتب ملامحها مفكرون وطامحون، ويرسمها بالجيوش، الجنرلات والعسكر والقادة المتطرفون
ولعبت الأفكار والإستراتيجيات دورها البارز على مدى القرن العشرين بكامله على مساحة العراق، قبل أن يتحول العراق نفسه لضحية لتلك الأفكار التي تهب عليه مرة من داخله، ومرة من جواره، ومرة من الغرب الأوروبي، ومرة من الغرب الأميركي، ومرة من شماله، ومرة من جنوبه
ولم يكن العراق خارج طموحات الطامعين بلعب دور مهيمن على إمتداد خارطته السياسية الداخلية الطائفية والعرقية، أو حتى على خارطته الإقتصادية النفطية، فمنذ أن كان العراق جزءاً لا يتجزأ من صراعات الإمبراطوريات الآفلة "بريطانيا وفرنسا"، مع الإمبراطوريات الوليدة "الولايات المتحدة الأميركية" و"الإمبراطوريات الحاكمة" "إيران"، وهو يحجز مكانه في خارطة الصراع على المنطقة، قبل أن يكون الصراع في داخل المتّقد طائفياً وعرقياً، وخارجه المضطرب بسبب طموحات الجيران فيه وتحديداً إيران الشاهنشاهية، ثم إيران الخمينية، وتركيا العثمانية، والأكراد الذين كانوا ولا يزالون جزءاً من مكونات الصراع العراقي الداخلي
وببساطة متناهية جداً يمكن التأكيد أن إحتلال العراق جاء في سياق إختبار الأفكار، والإستراتيجيات الطامعة في بسط نفوذها عليه لتسهيل السيطرة ليس فقط على الجغرافيا السياسية للمنطقة بالكامل، وإنما لحثّ دول المنطقة جميعها لإعلان إستسلامها لعصر جديد من عصور الإستعمار، ولعهد جديد من عهود الإمبراطوريات الوليدة، والمقصود هنا الولايات المتحدة الأميركية
وفي رسائل الرئيس صدام حسين التي صدرت عنه عقب إحتلال بغداد وحتى لحظة إعدامه، ما يمشي تماماً بإدراكه لطبيعة الصراع على العراق، ومكوّنات الصراع فيه، وأطماع الجيران الناهضة على حدوده، وأطماع الداخل التي تمنح ولاءها للخارج على حساب ولائها للداخل بالإضافة إلى ذلك، فإنه وفي رسالته الموجهة في 27 آذار مارس 2006 إلى القمة العربية المنعقدة في العاصمة السودانية الخرطوم، تحدث صدام في تلك الرسالة وبكل وضوح عن خطط صهيونية مسبقة لتنقيب وتجزئة الوطن العربي لتسهيل السيطرة عليه، مشيراً إلى أن تقسيم العراق "ليس مجرد إستنتاج أو حالة نرى مقدماتها على أرض الواقع العراقي اليوم فقط؛ بل هي أيضاً خطة معروفة تبنتها الحركة الصهيونية العالمية قبل إنشاء الكيان الصهيوني وبعدها
ويستند الرئيس "صدام حسين" في تأكيد ذلك على وثيقة قال عنها أن من كتبها هو "عود يدنيون" الذي كان مستشاراً لمفاحيم بينن رئيس وزراء إسرائيل، وحملت عنوان "إستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات" وجاء فيها: "إن بقاء إسرائيل مرتبط بالنجاح في تقسيم الأقطار العربية كلها سواء في المشرق أو المغرب العربين، وأن متطلبات نجاح خطة التقسيم هذه تحتم تعاون إسرائيل مع دول الجوار غير العربية، كتركيا وإيران في آسيا، وأثيوبيا وأوغندا وغيرهما في أفريقيا؛ إضافة للركن الثاني لنجاح الخطة، وهو دعم الأقليات الأثنية أو الطائفية أو الدينية في الوطن العربي، وتشجيعها على الإنفصال بكافة العراق
وبقي صدام حسين يؤكد مراراً وتكراراً وفي معظم رسائله على ما يعتقد بأنها الأهداف غير المعلنة لــ"المؤامرة الكبرى"، ليس ضد العراق وحده، وإنما ضد كل مكونات الأمتين العربية والإسلامية، ومن هذا الموقف بالذات لجأ صدام للتأكيد على أن الهدف الإستراتيجي من غزو العراق هو تقسيمه وتفتيته، وتحويله إلى دويلات ثلاث وعلى أسس طائفية وعرقية، وأن هذه المؤامرة لن تتوقف عند حدود العراق وإنما ستنسحب حكماً على باقي الأقطار العربية في فلسطين والسعودية والخليج، ولبنان، ومصر، والسودان، والمغرب العربي
في هذه المناخات يأتي هذا الكتاب "وصايا الذبيح" الذي جاء بمثابة دراسة وتحليل وتوثيق لرسائل الرئيس صدام حسين بإعتبارهما مادة سياسية على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة، كما أنها مادة وثائقية مهمة توضح الموقف النضالي المقاوم للرئيس الشهيد صدام حسين، وتؤرخ لمرحلة من أخطر مراحل التاريخ العراقي الحديث أولاً، والتاريخ العربي ثانياً، ولكونها أول رسائل بكتبها رئيس عربي وهو يقود المقاومة في بلده أولاً، ثم وهو يوجه تحذيراته ونصائحه للمقاومين وهو في أسر ويمكن القول بأن هذه الرسائل تشكل مادة غنية لكل باحث يريد معرفة أين وصلت أفكار الرئيس صدام حسين والتطورات التي برزت في فكره ومواقفه في الفترة الأخيرة في سني حكمه، وتحديداً في الفترة التي سبقت الإحتلال الأميركي، ثم فترة الإحتلال والإختفاء ثم الفترة الثالثة والأخيرة وهي فترة الأسر وصولاً إلى حفلة ذبحه